عقيدة
المسلم هي عصا التَّحويلة الأولى التي توجه المؤمن في حياته ، فمن خلالها ينطلق في
تعاملاته مع الآخرين و سلوك حياته وبناء مستقبله في الدنيا و الآخرة.
ولا
شك أن الأمم التي تحيا بلا عقيدة ، أو بمعنى آخر عقيدة مدخولة أمم جبانة، راكعة؛ تقتل أبناءها
التَّبعيةُ ويتجرع مرارة التخلُّف صغيرُها وكبيرها ، وإلى ربنا المشتكى.
فلو عرفنا هذا يجب علينا اقتراح أصول معصومة
لبناء عقيدة سليمة ترتكز عليها الأمَّة التي مات عنها نبيُّها و هي في غاية العز ، نعم كانت أمتنا في
غاية العزِّ !!
فعوداً على بدء ، ورجوعا إلى منابع العزَّة من
جديد مصادر التلقي الآمنة.
1- القرآن الكريم المصدر البنائي الأوَّل.
كل التيارات الإسلامية بل وغيرها يدندنون حول
أوليَّة القرآن ضمن مصادر التَّلقي وبناء العقيدة ، وكلهم – تقريبا – يقولون
بأنَّهم لا يختلفون على ذلك.
لكنَّ الأمر مختلف على أرض الواقع فغالب
المناهج و التيارات الإصلاحية لا تعتمد – حقيقة – القرآن كأساس لبناء العقيدة ،
وانصرفوا إلى أصول مجهولة ودساتير فاسدة وتربويات كاذبة.
القرآن مصدر معصوم ومادة متكاملة لبناء الفرد ،
و المجتمع ، صالحة لمعالجة الفاسد ، و تنمية الصَّالح ، ويمكن تلخيص منهجية القرآن
في بناء العقيدة في عدة نقاط:
أ-
القرآن
يؤسس بنيان العقيدة على أرض الفطرة التي جبل اللهُ الخلق عليها لتنبت الشجرة طيبة
الثمرة، فطرة التوحيد ،قال تعالى: (وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا
بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ )سورة الأعراف، الآية: 172.
وقال تعالى قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم:30).
و قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى:
« الرسل إنما تأتي بتذكير الفطرة ما هو معلوم لها، وتقويته وإمداده، ونفي المغير
للفطرة، فالرسل بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها، والكمال
يحصل بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة " ([1])
في الوقت الذي وضع القرآن مناهج الاعتقاد السليم على بساط الفطرة الأبيض النَّاصع ، أوجبت الفرق الكلامية و الفلسفية المنحرفة على الإنسان الاستدلال بالشَّك و النظر كمرحلة بدائية للوصول إلى الخالق.
و أقحمت التيارات العقلية المعاصرة أحقية العقل في إثبات الغيبيات أو نفيها ، فتلاشت الفطرة و تآكلت ثوابت الاعتقاد السليم و نشأ الإلحاد المغالطات الفكرية بدعوى حرية الفكر.
ب- القرآن الطريق الوحيد لاستقامة التفكير وسلامة المنطق ، ومن اتَّهم كتاب الله تعالى بشيء من التناقض فهذا دليل على رداءة فهمه و زيغ مقصوده ، لأن القرآن من أوَّله إلى آخره يدعو إلى تحكيم العقل في القضايا الفاصلة وقد أوردنا مبحثا كاملا في هذا الصدد.
فانظر إلى طرح السؤال على المشككين في خلق الله ووحدانيته بقوله تعالى(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور/35-36) ،فهذه أسئلة ثلاث عقلية
- هل أنت مخلوق من لاشيء؟
- هل أنت خلقت نفسك؟.
- هل أنت من خلق السموات و الأرض؟
أسئلة تستوجب الإجابة بنعم أو لا ، فإن أجاب بنعم فقد أثبت لنفسه أنه مجنون .
وكذلك قوله تعالى لمن يشركون مع الله آلهة أخرى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا) (فاطر/40)
وهكذا يستمر القرآن في ترسيخ سلامة التفكير و استقامة المنطق بالحجة العقلية وضرب المثال الذي يفهم العقل الإنساني.
د- التأثير العجيب في
النفوس.
للقرآن تأثير عجيب في النَّفس البشرية بل و غير البشر ،
المؤمن به وغير المؤمن فقد روى البخاري عن
محمد بن جبير ابن مطعم، عن أبيه - وكان أبوه يومئذ على الشرك - قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في
المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ
الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ . أَمْ
عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ } كاد قلبي أن يطير([2])
وكذلك أثره على قساوسة النصارى قال تعالى : ﴿ وَإِذَا
سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا
مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة:
83]، بل تأثَّر به مردة الجان الذين كانوا قبل نزوله يَسترقون السمع؛ ﴿ فَقَالُوا
إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي
إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1، 2
وغير ذلك من الأساليب و الطرق التي تميز القرآن عن غيره
من المصادر في ترسيخ الإيمان ودحض الشبهات.
2- الابتعاد عن المنهج الفلسفي الجدلي .
من أكثر
الأخطاء المنهجية في بناء العقيدة إقحام المناهج الجدلية و الفلسفية التي ترسخ في
النفوس حب السفسطة و الزيغ ، ومغبَّة هذا الأمر واضحة وظاهرة في نتاج الجامعات و
المدارس الإسلامية التي تعتمد مناهج الأشاعرة و المعتزلة في تقرير المسائل
الاعتقادية.
ومن أهم
مخاطر هذه المناهج الكلامية العويصة :
1-
مخالفتها للمنهج القرآني في عرض
العقيدة: فبينما يتبع القرآن الكريم منهج مخاطبة الفطرة والعقل والقلب والشعور
الإنساني معا, ينتهج علم الكلام الطريقة العويصة التي لا هي قرآنية شرعية, ولا هي
طريقة عقلية تصمد أمام مقررات العقل القوي الحجة, السليم الاستنباط في كثير من
الأحيان، وكمثال على ما نقول: فالقرآن الكريم أثبت وجود اليوم الآخر بأدلة سهلة
ميسورة, بينما حاول علم الكلام إثباته أولا كقضية ذهنية "عدم استحالة
وقوعه" لينتقل بعد ذلك لتقرير وجوده بناء على المقررة الذهنية, بينما نحا
القرآن منحى عقليا واقعيا سهلا ليصل إلى النتيجة المؤكدة.
فقد أثبت القرآن إمكان وجود اليوم الآخر من خلال وقوع
نظيره من الخلق الأول الذي هو أهون على الله, فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ .........}
الروم/27
ثم أوضح القرآن قدرة الله على ذلك بقوله تعالى: {أَوَ
لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} يس/81,
كما قرر القرآن
الكريم وجود اليوم الآخر فعلا لحكمة إلهية عالية يتحقق منها العدل الإلهي من خلال
مبدأ الثواب والعقاب. ([3])
2-
إغفال توحيد العبادة الذي هو هدف
الرسالات: شاع إطلاق اسم "علم التوحيد" على "علم الكلام" وذلك
بالنظر إلى موضوعه الذي يبحث في ذات الله وصفاته وأفعاله, وقد حرص أرباب هذا العلم
على إثبات تلك التسمية لشرفها, وظنهم أن توحيد الربوبية هو المطلوب الأول للرسل,
بينما غفلوا عن إثبات الألوهية وتوحيده سبحانه بالعبادة والطاعة.
لقد ارتبط معنى
"التوحيد" عند أهل الكلام بتوحيد الربوبية في الأذهان, والمتضمن أدلة
وجود خالق للكون ورازق, وهي صفة قررها القرآن الكريم, بل إن المشركين من قريش
كانوا يعتقدون بذلك كما جاء في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} العنكبوت/61.
إلا أن
القرآن الكريم لم يكتف بذلك, فمحل النزاع مع المشركين لم يكن في هذا الجانب, وإنما
كان محل النزاع في إفراد الله بالعبادة والطاعة, ونبذ عبادة الأوثان والأصنام, قال
تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
فَاعْبُدُوهُ} الأنعام/102.
يقول ابن تيمية: وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في
مسمى التوحيد, فإن عامة المتكلمين الذين يقرون التوحيد في كتب الكلام والنظر,
غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع فيقولون: هو واحد في ذاته, وواحد في صفاته
لا شبيه له, وواحد في أفعاله لا شريك له..... ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب. ([4])
3-
وضعت المناهج الكلامية و الجدلية أصول للدين غير ما بينه الله ورسوله: فقد وضع
علماء الكلام "أصولا" قرروها من مشكلات وحلها, ومن مقدمات ولوازمها,
وسموا ذلك "أصول الدين" التي لا بد للمسلم أن يعرفها ليصح إسلامه, فعليه
أن يعرف أدلة حدوث العالم, وأدلة التمانع والجوهر والعرض, وقواعد الحركة والسكون
......الخ
وجعل أصحاب علم الكلام من هذه الأمور أول الواجبات على
المكلف "المعرفة", وقد أوضح شارح "الجوهرة" مذاهب الناس في
أول الواجبات على المسلم فقال: "وأهم الأقوال في أول الواجبات: ما قاله
الأشعري إمام هذا الفن أنه: المعرفة, وقال الاسفراييني: أنه النظر الموصل للمعرفة,
وقال القاضي الباقلاني: أنه أول نظر, أي المقدمة الأولى منه .... وجعل النطق
بالشهادتين آخر هذه الأقوال!! ([5])
4-
تعظيم دور العقل وجعله حاكما لا
محكوما: حيث عظم أرباب الكلام العقل وارتضوه أحكامه فيما لا يصلح أن يكون فيه
حكما, فقد كانوا يطرحون المسألة ثم يعرضونها على العقل - عقل الواحد منهم طبعا
وليس العقل البديهي العام المشترك بين البشر - فيستجمع لها الأدلة كما
يتراءى له لإثباتها على وجه من الوجوه, ثم بعد ذلك يعمد إلى الأدلة النقلية فيؤول
منها ما لا يوافق نتيجته العقلية – إن كانت من القرآن – أو يرد الحديث بدعوى
تناقضه مع العقل أو أنه مبني على الظن.
ويتضح منهجهم هذا من موقفهم من خبر الواحد, فقد أنكروا
حجيته مطلقا في الاعتقاد, ووضعوا شروطا – من بينها كون المتن مما يجوزه العقل -
لقبوله في باب الأعمال, ولهم في هذا الباب فضائح في رد كثير من الأحاديث لاستحالة
موافقتها للعقل كما يزعمون, يمكن الرجوع إليها في كتاب "تأويلا مختلف
الحديث" لابن قتيبة. ([6])
3- اعتماد السنة الصحيحة و التَّمسك الشديد بها.
السنة النبوية الشريف هي الحصن المنيع لأمة الإسلام ،
ومتى حدثت فيها الثغرات لم يعد للمسلمين عقيدة صحيحة يتمسكون بها ، و هي أول محطات
الغزو و الهجوم ، لأن الأعداء و المنافقين الموالين لهم إذا نجحوا في اختراقها فما
تبقَّى فهو أسهل و أيسر .
ولا يخلو في أيَّامنا هذه من الحوارات الخبيثة على
الفضائيات و في المجلات في الحديث حول السَّنة و أنها تراث قابل للنقد بل و الطعن
بل و حتى الرَّد .
وقد سمعنا من أحد هؤلاء النابحين – لا أراحه الله في
نفسه – يقول بأن التراث الإسلامي و كتب الأئمة الأربعة تراث عفن ، وإنا لله و إنا
اليه راجعون.
فالاعتصام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم منجاة قال الزهري رحمه الله "
الاعتصام
بالسنة نجاة والعلم يقبض قبضا سريعا فنعش العلم ثبات الدين والدنيا وذهاب ذلك
كله ذهاب العلماء. ([7])
وقال شيخ
الاسلام رحمه الله فعليك بالسنة فإنها
شارحة للقرآن وموضحة له؛ بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل
ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن.
قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ
لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا(النساء 105).
وقال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
(النحل 44).
وقال تعالى:
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).(النحل 64) ([8])
[1] .مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
- ج 16 - التفسير 3 - الزمر – الكافرون ص348
[2] رواه البخاري أبواب صفة الصلاة باب الجهر في المغرب 731
[3] درء تعارض العقل والنقل ابن تيمية 1/36 عن المجلة الالكترونية مركز
التأصيل للدراسات والبحوث [ الأحد 21 شوّال 1435 هـ ]
[4] الفتاوى 3/98عن البحث السابق.
[5] شرح جوهرة التوحيد للباجوري 59
[6] المرجع السابق.
[7] الآثار الواردة عن أئمة السنة في أبواب الإعتقاد من سير أعلام
النبلاء جمال أحمد بشير ج/1 ص119
[8] مجموع الفتاوى ج/ 13 ص364 .
إرسال تعليق