-->
U3F1ZWV6ZTI0OTIyODIyOTkxX0FjdGl2YXRpb24yODIzNDExOTk3MTU=

تقديم العقل على النقل، مفهومه وتطبيقاته


العقل نعمة من الله تعالى امتحن عباده بها ، فهي سلاح ذو حدين فمنهم من طوع عقله وامتثل أمر الله تعالى و أمر نبيه ولم يتعد حدوده فوقف عند قوله تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (36) )الاحزاب.
ومنهم من سلك سبيل الغواية حتى قاده عقله إلى رد النصوص الصحيحة المخالفة لفهم  عقله القاصر فخرج عن الجادة ولزم طريق الغي  و العياذ بالله .

مفهوم تقديم العقل على النقل.

العقلانيون جماعة يعتقدون أولوية تقديم فهم العقل على منطوق الشرع ويردون الأحاديث
قال الشاطبي  - ر حمه الله -  ويعرفون بردهم للْأَحَادِيثِ الَّتِي جَرَتْ غَيْرَ مُوَافِقَةٍ لِأَغْرَاضِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْقُولِ، وَغَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَيَجِبُ رَدُّهَا:
كَالْمُنْكِرِينَ لِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَالصِّرَاطِ، وَالْمِيزَانِ، وَرُؤْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الذُّبَابِ وَقَتْلِهِ، وَأَنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً، وَأَنَّهُ يُقَدِّمُ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ، وَحَدِيثُ الَّذِي أَخَذَ أَخَاهُ بَطْنُهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَقْيِهِ الْعَسَلَ. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَنْقُولَةِ نَقْلَ الْعُدُولِ.
[وَ] رُبَّمَا قَدَحُوا فِي الرُّوَاةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَمَنِ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَإِمَامَتِهِمْ؛ كُلُّ ذَلِكَ لِيَرُدُّوا بِهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الْمَذْهَبِ. (الاعتصام للشاطبي ص 171 بتصرف يسير جدا .)

مظاهر تقديم العقل على النقل  قديما وحديثا.

أولا : مظاهر تقديم العقل على النقل  قديما
ومن مظاهر هذه البدعة قديما ما ذكره الشاطبي - رحمه الله – في قوله " وَقَدْ جَعَلُوا الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ قَوْلًا بِمَا لَا يُعْقَلُ.
وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُهُمْ: هَلْ يَكْفُرُ مَنْ قَالَ بِعدم رُؤْيَةِ الْبَارِي فِي الْآخِرَةِ؟ فَقَالَ: " لَا يَكْفُرُ لِأَنَّهُ قَالَ مَا لَا يَعْقِلُ، وَمَنْ قَالَ مَا لَا يَعْقِلُ؛ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ "!.
-       وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى نَفْيِ أَخْبَارِ الْآحَادِ جُمْلَةً، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا اسْتَحْسَنَتْهُ عُقُولُهُمْ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، حَتَّى أَبَاحُوا الْخَمْرَ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ.
فَفِي هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أُلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ»، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ تَضَمَّنَهُ النَّهْيُ لَاحِقٌ بِمَنِ ارْتَكَبَ رَدَّ السُّنَّةِ.
فَفِي هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أُلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ»، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ تَضَمَّنَهُ النَّهْيُ لَاحِقٌ بِمَنِ ارْتَكَبَ رَدَّ السُّنَّةِ. ([1])
ثانيا : مظاهر تقديم العقل على النقل  حديثا
من المظاهر التي انتشرت في العصر الحديث – حتى بين التيارات الإسلامية - تقديم المصلحة المتوهمة على النص، يقول محمد المحمود: ما نحتاجه الآن: قطيعة نوعية مع تراث بشري تراكم على مدى أربعة عشر قرناً، يقابله اتصال خلاَّق بالنص الأول في مقاصده الكبرى، وليس مجرد ظاهرية نصوصية  لا تعي ما بين يديها ولا ما خلفها.
 وكذلك تشجيع الليبراليين الذين ينتهجون هذا المنهج، وفتح المجال لأقلامهم المسمومة في الصحافة، ولا اخال من له أدنى متابعة لصحفنا السيارة اليوم يشكك في صحة ذلك.
وغيرها الكثير..
وهذه النزعة ليست وليدة اليوم، بل بدأت تطل بقرنها منذ القرن الثالث الهجري، ولقد انبرى جهابذة العلماء منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا يكشفون الملتبس، ويردون شبهتهم([2])

وهل يٌمكن أن يتعارض العقل مع النقل؟.

"العقل الصريح لا يُعارض النقل الصحيح ، بل يشهد له ويؤيده لأن المصدر واحد فالذي خلق العقل هو الذي أرسل إليه النقل ، ومن المحال أن يُرسل إليه ما يُفسده ، وإذا حدث تعارض بين العقل والنقل فذلك لسببين ، لا ثالث لهما ، إما أن النقل لم يثبت وإما أن العقل لم يفهم النقل".
هذه أصولٌ للعقيدة ، فلن تجد إنساناً فطرته سليمة وعقله واضح يختلف معك في هذا ، فالذي صنع العقل هو الله ، والذي أنزل إليه النقل الممثل في الكتاب والسنة كنظام يسير عليه الإنسان فيَسلم في الدنيا والآخرة هو الله ،فمن المحال أن يُرسل إلى صنعته منهجاً يُفسدها ، فالإنسان لا يقبلها على نفسه ، فكيف يقبلها على رب العزة والجلال؟
فأي واحد من المخالفين سيتفق معنا على هذا المبدأ ، ولكن كيف نشأت هذه اللوثة؟!

أصل بدعة تقديم العقل و دوافعها

أول من اشتهر عنه بحث هذا الموضوع الجهم بن صفوان الذي وضع قاعدته المشهورة: "إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع"   ، وبني على ذلك أن العقل يوجب ما في الأشياء من صلاح وفساد، وحسن وقبح، وهو يفعل هذا قبل نزول الوحي، وبعد ذلك يأتي الوحي مصدقا لما قال به العقل من حسن بعض الأشياء وقبح بعضها، وقد أخذ المعتزلة بهذا القول ووافقهم عليه الكرامية .
ومن ثم وقع الخلاف حوله على ثلاثة أقوال:
1-   أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، والفعل حسن أو قبيح إما لذاته، وإما لصفة من صفاته لازمة له وإما لوجوه واعتبارات أخرى، والشرع كاشف ومبين لتلك الصفات فقط. وهذا هو مذهب المعتزلة والكرامية ومن قال بقولهم من الرافضة والزيدية وغيرهم  .
2-   أنه لا يجب على الله شيء من قبل العقل، ولا يجب على العباد شيء قبل ورود السمع، فالعقل لا يدل على حسن شيء، ولا على قبحه قبل ورود الشرع، وفي حكم التكليف، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. قالوا: ولو عكس الشرع فحسن ما قبحه، وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا. وهذا قول الأشاعرة ومن وافقهم  .
3-   التفصيل، لأن إطلاق التحسين والتقبيح على كل فعل من جهة العقل وحده دون الشرع، أو نفي أي دور للعقل في تحسين الأفعال أو تقبيحها غير صحيح، ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أهل الحق في هذا توضيحا كاملا، فيقسم الأفعال إلى ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن أو قبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه ثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا ما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث الله إليهم رسولا، وهذا خلاف النص، قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]
و الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا، وإذا نهى عن شيء صار قبيحا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
و الثالث:  أن يأمر الشارع بشيء يمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه : فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] حصل المقصود، ففداه بالذبح وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، فلما أجاب الأعمى قال الملك: (أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضي عنك وسخط على صاحبيك), فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به، وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع. وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب" .
وشيخ الإسلام يزيد الأمر تحقيقا فيبين أن التحسين والتقبيح قسمان:
أحدهما: كون الفعل ملائما للفاعل نافعا له أو كونه ضارا له  منافرا فهذا قد اتفق الجميع على أنه قد يعلم بالعقل .
و الثاني: كونه سببا للذم والعقاب، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف:
-       فالمعتزلة قالوا قبح الظلم والشرك والكذب والفواحش معلوم بالعقل، ويستحق عليها العذاب في الآخرة وإن لم يأت رسول.
-       والأشاعرة قالوا: لا حسن ولا قبح ولا شر قبل مجيء الرسول، وإنما الحسن ما قيل فيه افعل، والقبيح ما قيل لا تفعل. ولم يجعلوا أحكام الشرع معللة، وهذا يوافق مذهبهم في التعليل.
-        جمهور أهل السنة قالوا: الظلم والشرك والكذب والفواحش كل ذلك قبيح قبل مجيء الرسول، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول  .
وما فصله شيخ الإسلام هو الموافق لمذهب السلف، وهو الذي دلت عليه النصوص، أما الكلام في هذه المسألة كاصطلاح فإنما نشأ في المائة الثالثة من الهجرة .
والأشاعرة لأنهم يميلون إلى "الجبر" في القدر، قالوا بالتحسين والتقبيح الشرعي فقط. ولذلك احتج الرازي صراحة عليه بالجبر، فإنه أثبت أن العبد مجبور على فعله القبيح، فلا يكون شيء من أفعال العباد قبيحا.
ويرى شيخ الإسلام أن هذه الحجة هي في الأصل حجة المشركين المكذبين بالرسول الذين قالوا: لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [الأنعام: 148]، فإنهم نفوا قبح الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات بإثبات القدر، لكن شيخ الإسلام يستدرك – إنصافا لخصومه – فيقول: "لكن هؤلاء الذين يحتجون بالجبر على نفي الأحكام إذا أقروا بالشرع لم يكونوا مثل المشركين من كل وجه، ولهذا لم يكن المتكلمون المقرون بالشريعة كالمشركين وإن كان فيهم جزء من باطل المشركين.
يرى الأشاعرة أن القبيح ما نهى عنه الشارع والحسن بضده، فلا حكم إذاً للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وأنه ليس ذلك عائداً إلى أمر حقيقي في الفعل، فالشارع مثبت ومبين للحسن والقبح بأمره أو نهيه .
وقد رد عليه شيخ الاسلام و أطل حججهم و الحمد لله رب العالمين . ([3])

الآثار المترتبة على  بدعة تقديم العقل على النقل

-       تأليه العقل وتصدير الخرافات للناس من خلال هذا التقديس : فكل من يزعم أن العقل  مقدم على النقل ، فهو يمارس أغلوطة الفلاسفة و الملاحدة نفسها، فيزعم أنه يقدم العقل  فهو يحتمي بهذه اللفظة ويجعلها حصان طروادة يدس فيها خرافات وشطحات وتقريرات  العقول القاصرة مغلفًة بالتقديس على أساس أن فهمه القاصر الذي جعله الأصل وقاس عليه نصوص الشرع هو مسلمات ينطلق منها الفكر الإنساني.
-       ضياع عبادة الامتثال لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، هذه العبادة العظيمة التي يقوم عمادها على التَّسليم الكامل لله تعالى ونصوص كتابه ولنبيه و نصوص سنَّته ، وانظر إلى خليل الرحمن لمَّا أمر بشي ء يخالف ظاهره معقولات البشر وهو أمر ذبح ولده اسماعيل فلذة كبده فهل قال : كيف أمتثل أمرا لا يعقل ؟ كلا ! ، ولكنه امتثل الأمر دون جدال لأنه مهما يفكر في حكمة الله تعالى فلن يصل عقله الى مراد الله تعالى إلا بالمعاينة فقال تعالى مخاطبا الناس عن هذا النبي الكريم   ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:99-107].
-       و الأعجب من هذا هو امتثال اسماعيل عليه السلام أيضا لأمر الله تعالى فما كان منه الا أن انطرح لتحز رقبته وتقطَّع أوداجه تعظيما لأمر الباري جل وعلا قائلا ﴿ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات].
-       وكذا ما جاء عن أمِّ موسى عليهما السلام من تعظيم أمر الله تعالى لما شكت خوفها على مولودها فقال الله تعالى ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7].
-       كذلك انظر الى مريم عليها السلام وهي في  حالة صعبة تعاني آلام المخاض و معاناة السَّفر وضعف الأنوثة وألم الجوع ثم يخاطبها الله تعالى بخطاب لو قيس بمقاييس العقول القاصرة لكان مخالفا فقال في شأنها ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:22-26].
يا إلهي ! * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * هذه ليست شجرة فاكهة صغيرة إنها النَّخلة التي يرتقيها الشاب الطرير بالكاد و الوعورة ليصل إلى الرّطب.
ولكنها الحكمة الإلهية المقرونة بقوة  تحيص فيها العقول البشرية ( ثم يقولون العقل أولا ياله من خبل ) !
ومما جاء في سنته عليه الصلاة و السلام:  ما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: آلله الذي لا إِله إِلا هو، إِن كُنْتُ لأعْتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشُدُّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدتُ يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله؟ ما سألته إلا ليَسْتَتْبِعني، فمرَّ، فلم يفعل، ثم مر عمر، فسألته عن آية من كتاب الله؟ ما سألته إلا ليستتبعني، فمرَّ فلم يفعل، ثم مرَّ بي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - فتبسَّم حين رآني، وعرف ما في وجهي، وما في نفسي، ثم قال: يا أبا هِرَّ، قلتُ: لبيك يا رسول الله، قال: الحَقْ، ومضى فاتَّبعته، فدخل، فاستأذن، فأذِنَ لي فدخل، فوجد لبنًا في قدح، فقال: من أين اللبن؟ قالوا: أهداه لك فُلان، أو فُلانة، قال: أبا هِرّ، قلتُ: لبيك يا رسول الله، قال: الحَقْ إِلى أهل الصُّفَّة، فادْعُهُمْ لي، قال: وأهل الصُّفة أضياف الإِسلام، لا يأوون على أهل ولا مال، ولا إلى أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، فإذا أَتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، وقلت: وما هذا اللبن في أهل الصُّفَّة؟ كنتُ أحقَّ أن أُصيب من هذا اللبن شَرْبَة أَتَقَوَّى بها، فإِذا جاؤوا أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله، وطاعة رسوله بُدّ، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا واستأذنوا، فأَذِن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: يا أبا هِرّ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القَدَح، فجعلتُ أعطيه الرجل، فيشرب حتى يَرْوَى، ثم يَرُدُّ القَدَح، فأعطيه الآخر، فيشرب حتى يَرْوَى، ثم يردُّ عليَّ القَدَح، فأعطيه الآخر، فيشرب حتى يَرْوَى، ثم يرُدُّ عليَّ القَدَح، حتى انتهيتُ إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد رَوِيَ القوم كلهم، فأخذ القَدَح، فوضعه على يده، فنظر إليَّ، فتبسَّم، فقال: يا أبا هِرّ، قلتُ: لبيك يا رسول الله، قال: بقيتُ أنا وأنت، قلتُ: صدقتَ يا رسول الله، قال: فاقْعُد فاشرب، فقَعَدْتُ فشَرِبْتُ، فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول: اشرب، حتى قلت: لا، والذي بعثك بالحق، ما أجِدُ له مَسْلَكًا، قال: فأَرِنِي، فأَعطيته القَدَح، فحَمِد الله وسَمَّى، وشرب الفَضْلَة. ([4])
 فأي قدح هذا الذي يروي رجلا كاد الجوع أن يقتله ويروي معه قوما ليس هو بأكثر جوعا منهم، ومع هذا فإن أبا هريرة رضي الله عنه لم يقل يارسول كيف يُشبع هذا القدح أحدا ؟ إنَّه لا يكفي جوعانا مثلي !
نعم إنَّ أبا هريرة  لم  تظهر له الحكمة لذا قال أولا  : وقلت: وما هذا اللبن في أهل الصُّفَّة؟ كنتُ أحقَّ أن أُصيب من هذا اللبن شَرْبَة أَتَقَوَّى بها، فإِذا جاؤوا أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟
 ولكنه  آثر الامتثال و تقديم الأمر على عقله  وعبر عن ذلك في كلامه بقوله - رضي الله عنه - وهو محل الشاهد من الحديث: ولم يكن من طاعة الله، وطاعة رسوله بُدّ .
هكذا كانوا ، فإن نظرت الى حالهم وحالنا علمت من أين أوتينا .
الكفر بالأمور الالهية و الغيبية ، وهذا هو عين ما حدث للفلاسفة و الملاحدة من جراء تقديم العقل على خبر الله ورسوله  ، فكيف لرجل يقدم يزن بعقله الأبيض و الأسود أن يصدق بالبعث و النشور و الحساب و الجنة و النار و كل الغيبيات فعقولهم – المُحَكَّمَة على شريعة الرحمن – عاجزة عن الإدراك  لأن ميزان الذهب و الفضة لا توزن به الجبال الراسيات ولهذا  قال شيخ الاسلام رحمه الله تعالى  "ومن المعلوم أن موازين الأموال لا يُقصَد أن يوزن بها الحطب والرصاص دون الذَّهب والفِضَّة، وأمر النبوات وما جاءت به الرسل أعظمُ في العلوم من الذَّهب في الأموال" ([5])
ولما نفوا الغيبيات و ألحدوا نتيجة إعراضهم عن النور المنزل من عند الله بتقديم عقولهم الحسابية عليه ، وصفهم شيخ الاسلام بالجهل و الضلال و هو محق في وصفه فيقول " "إن هؤلاء المتفلسفة المتأخِّرين في الإسلام من أجهل الخلق عند أهل العلم والإيمان، وفيهم من الضلال والتناقض ما لا يخفى على الأذكياء من الصبيان؛ لأنهم لما التزموا ألاَّ يسلُكُوا إلا سبيلَ سلفهم الضالين وألاَّ يُقرُّوا إلا بما يبنونه على تلك القوانين، وقد جاءهم من النُّور والهدى والبيان ما ملأ القلوب والألسنة والآذان، وصاروا بمنزلة من يريد أن يطفئ نور الشمس بالنفخ في الهباء أو يغطي ضوءها بالعباء" ([6])
ويقول في كتاب النبوَّات:
"كلامُهم في الخلق والبعث والمبدأ والمعاد وفي إثبات الصانع، ليس فيه تحقيق العلم لا عقلاً ولا نقلاً، وهم معترفون بذلك؛ كما قال الرازي: لقد تأمَّلتُ الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن" ([7])

خلاصة الباب.

من أصول أهل السنة والجماعة المقررة عندهم: أن العقل لا يقدم على النقل، وأنهما لا يختلفان إذا صح النقل وسلم العقل من الآفات، ومع هذا فهم لا يقللون من شأن العقل أو يلغونه؛ فإن الشرع بنصوص الكتاب والسنة قد خاطب العقل والعقلاء، وجعل العقل هو مناط التكليف للمرء، ثم هم أيضاً لا يتجاوزون به حدوده، فيبحثون عن الحكمة والعلة في كل شيء، بل ما ظهر منها أخذوا به، وما لم يظهر أسلموا له وأذعنوا. ([8])
 ومن الكلمات المليحة التي قيلت في هذا الصدد قول القائل:
 علم العليم وعقل العاقل اختلفا *** من ذا الذي فيهما قد أحرز الشرفا

فالعلم قال: أنا أحرزت غايته *** والعقل قال: أنا الرحمن بي عرفا
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له *** بأينا الله في فرقانه اتصفا
فأيقن العقل أن العلم سيده *** فقبل العقل رأس العلم وانصرفا



[1]  الاعتصام للشاطبي ص 172
[2] عن مقال مشور على الشبكة  بعنوان تقديم العقل على النقل وليد المرزوقي ورابطه  http://www.al-aqidah.com/art/s/394 و المشرف على الموقع د. أحمد عبد الرحمن عثمان القاضي استاذ العقيدة بجامعة القصيم)

[3] الموسوعة العقدية ، الفرق و المذاهب ، تقديم العقل على النقل ، موقع الدرر السنية وهو بحث واف في المسألة ومزوَّد بالمراجع و المصادر اللازمة  ورابط البحث  http://www.dorar.net/enc/firq/380
[4] صحيح البخاري كتاب الرقاق، باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا 6087)

[5]  (نقض المنطق ص 163.مكتبة السنة المحمدية )

[6]  المرجع نفسه نقض المنطق ص 163
[7] بعضها مستفاد من سلسلة مقالات رائعة بعنوان العقل والشرع ( فضل العقل، العقل والنقل ) أعدها د. فهمي قطب الدين النجار وهي منشورة على الشبكة بعنوان http://www.alukah.net/culture/0/67761/

[8] اصول أهل السنة و الجماعة حسن الزهيري  أصل هذا الكتاب دروس صوتية الدرس الدرس التاسع
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة